Select Page

بسم الله الرحمن الرحيم

الصمت

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفور

 

        قالوا: أخبرنا عن الكلام والصمت أيهما أفضل؟

قلت: الصمت أفضل إلا إذا لم تجدوا مناصا من الكلام الذي فيه خير ونفع، فإن الصمت وقاية ضد ورطات يوقع الإنسان فيها لسانه إيقاعا، يغرُّه النطق وتحريك شفتيه غافلا عن يوم تخمد فيه الحركات، ويختم فيه على الأفواه، ويحاسب فيه على كل ما نطق به من دقيق وجليل حسابا عسيرا غير يسير، ومن يتتبع كلمة بعد كلمة ملحا تقاسمت عقله الكلمات وأفسدت قلبه وروحه إفسادا، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت”، وعن بشر بن الحارث: “إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم”، وإن من جعل الإنصات سمته ربح وسلم، ومن عشق فضول الحديث خسر وندم، وأعون شيء على التروي والتبصر هو السكوت والإطراق، وهو أفضل خلال العلماء الحكماء، وإياكم والثرثارين المهذارين المغرمين بالهجر واللغو والهذيان، فما أقربهم إلى السفه والجهل والضلال، وما أبعدهم من الرشد والحلم والهدى

        قالوا: آفات اللسان كثيرات ملحات، مضحكات مخزيات، ومخجلات مبكيات، فأخبرنا عن طوامها الداهية

قلت: طوامها من أنكب الطوام، ومن ثم قال ابن مسعود: “ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان”. وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: “يا أبا يحيى! حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم”. فأعضل ما استغوي به الإنسان، وأعتى ما يتحكم به الشيطان فيه اللحمة التي بين لحييه. وألخص لكم جوائح اللسان وبوائقه في أربع نقاط

        الأولى: الكذب، وهو لهج بالأباطيل اغترارا بها، وقد أنكره الله تعالى في كتابه إنكارا شديدا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار”، فالكذب مهلكة ممحقة للبركات في الأقوال والأفعال، وموت للعقول والقلوب والأرواح، والصدق تاج للبر، يثقب زنده في كل ناحية سراجا، وصبرا صبرا على شدائده فإن لها انفراجا

        الثانية: الغيبة، قال تعالى: “ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه”، إذا لم يكفف المرء عن الناس لسانه، فليس له ما عاش منهم مصالح ومن ربهم ولاء، وكلما جمع الناس مجلس كان أيسر على الشيطان أن يفتح لهم باب الغيبة، جارًّا إلى النميمة، وقذف المحصنين والمحصنات، واللعب بأعراض الناس والالتذاذ بحرماتهم، وفي ذلك من الإثم والفساد ما يزهق القلوب، ويعطل العقول، ويهد بنيان المجتمع هدا

        الثالثة: الجدل، والجدل باعثه إثم وعاقبته إثم، فباعثه حب الجاه، وعاقبته التدابر والتحاقد والتباغض والتحاسد، قال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال أيضًا: المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن، فأي المحارم لم ينتهكها الجدل، وأي الفضائح لم يأتها المراء، إذا المرء لم يمدحه إعراضه عن الجدل، فليس له أبد الدهر مادح، وما يستطيب العيش إلا الرفيق المسامح

        الرابعة: الوقوع فيما لا يعني، فالسكوت يقيك من الهذر الذي لا يرجع منه إلى نفع، وقد قيل: إن أنفع الأشياء للإنسان ألا يتكلم بما لا يعنيه، وقد كثرت الثرثرة وتضاعف فضول الكلام في زماننا عبر الوسائط الحديثة، واعلموا أن الكلمات قروح في قلوبكم وعلى وجوهكم، فلا تُكثرُنَّ منها، وإن للسكوت لشذى وطيبا، وإن كثرة الكلام آسنة منتنة، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: كلم الناس قليلا، وكلم ربك تعالى كثيرا، لعل قلبك يرى الله تعالى. قال حسان بن سنان ذات يوم: “لمن هذه الدار؟ ثم رجع إلى نفسه، وقال: ما لي وهذا السؤال؟ وهل هذه إلا كلمة لا تعنيني، وهل هذا إلا لاستيلاء نفسي وقلة أدبها؟ وآلى على نفسه أن يصوم سنة كفارة لهذه الكلمة”، وقال أبو بكر الفارسي: إذا كان العبد ناطقا فيما يعنيه وما لا بد منه فهو في حد الصمت

        قالوا: علمنا عوادي الكلام وعاهاته، فهل يباح لنا أن نصوم عن الكلام كما نصوم عن الطعام والشراب؟

قلت: لم يسن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الصوم، فكونوا من الإحداث في الدين على حذر، وإنما الواجب أن تحفظوا ألسنتكم صائنيها عن الآثام وعما لا يعنيكم، قيل لذي النون المصري: من أصون الناس لنفسه؟ قال: أملكهم لنفسه، وعن علي بن بكار: جعل الله لكل شيء بابين (أي مصراعين)، وجعل للسان أربعة أبواب، فالشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان، ولا مجاهدة أكبر من أن تقولوا الخير وتمنعوا أنفسكم من سوء الكلام وفضوله، روي أن أبا حنيفة قال لداود الطائي: لم آثرت الانزواء؟ قال: لأجاهد نفسي بترك الجدال، فقال: احضر المجالس واستمع ما يقال ولا تتكلم، قال: ففعلت ذلك فما رأيت مجاهدة أشد علي منها

        قالوا: فلماذا قال الله لمريم عليها السلام: “فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا”. وكيف تفسر قول الله تعالى “قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا”

        قلت: ليس لكل سؤال أو نطق جواب، وإن جواب ما يكره، أو يتأخر بيانه، السكوت، ونرى كثيرا من الناس إذا شاهدوا أحداثا غريبة أو بلغهم أخبار عجيبة ثارت ألسنتهم بالأسئلة مهذارين متناوليها بتعليقات متبادليها فيما بينهم متلذذين مشتهين، ومضيعين أوقاتهم بعدا عن ذكر الله تعالى وتساهيا عن الفروض والواجبات، فمريم عليها السلام أوتيت ابنا من دون أن يمسها بشر، وعلمت أن قومها سينهالون عليها بأسئلة وهي تحمله إليهم بل ويقذفونها بالتهم والافتراءات، وفي سماع كلماتهم والرد عليهم مشقة عليها كبيرة، فأمرها الله بالصوم عن كلامهم، جاعلا طفلها الرضيع شاهدا بعفتها وطهارتها وأنها من القانتين، وكذلك لما بشر زكريا بيحيى علم الله أنه إذا أخبر بذلك قومه تحادثوا عن هذه الأعجوبة وتداولوها فيما بينهم تعليقا واستغرابا أياما، فأمره الله أن يصوم حتى تنقضي ايام الاستغراب والاستعجاب حافظا لوقته من الضياع وشغلا لقلبه بمولاه

        قالوا: فلم لم يؤمر آل بيت إبراهيم بهذا الصوم؟

قلت: لأنه لم يكن بين قوم كثيري التساؤل والترداد والمراجعة، فاستغنى عن نذر الصمت

        قالوا: فهل يمكن أن تحدث أوضاع في زماننا تنصحنا فيها بالصوم؟ قلت: لا أنصحكم بالصوم، ولكن كلما حدثت انقلابات وتغيرات في العالم وفي المجتمع مستهوية الناس فاتنة، وجب عليكم أن تنذروا الصمت والإعراض عن تصفح الجرائد والصحف واستخدام كافة أنواع وسائل الإعلام لاسيما الإعلام الاجتماعي، صيانة لأصيل أعماركم وشريف أحيانكم، وإخباتا إلى ربكم منيبين

        قلت: الزموا الصمت محبين له مؤثرين إياه على الكلام، وقال بعض الحكماء: “تعلم الصمت كما تتعلم الكلام، فإن كان الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك”، ودعوا الكذب والغيبة والمراء والجدل، وفضول الكلام، وقولوا حسنا وأمسكوا عن القبيح، ولا تنفكوا عن السوء وعما لا يعنيكم صمَّاتين، فلستم على رد ما قلتم قادرين، وأنكم إذا تكلمتم بالكلمة ملكتكم وأوبقتكم وإذا لم تتكلموا بها ملكتموها، ولن تندموا على السكوت، وتندمون على الكلام، وكونوا صادقين في عزمكم ثابتين عليه صامدين، فبالصدق نالوا ما نالوا، وبقوة العزائم بلغوا ما بلغوا