Select Page

بسم الله الرحمن الرحيم

من علَّمك ذكرَ الله؟

بقلم: محمد أكرم الندوي

 

قالوا: نسمعك دائمًا تُذكِّرنا بربِّنا عز وجل مسبِّحا له وحامدا، ولائذا به مستغيثا، وترغِّبنا في حبه وطاعته، والعبادة والتأله محرِّضًا إيانا ومشوِّقًا، فكيف نربِّي أنفسنا على هذه الصلة بالله تعالى وننشئها عليها إنشاءًا؟ قلت: الله ربنا ومولانا، لا رب لنا سواه ولا مولى، ذكرُه معوَّلنا، وحمده غذاؤنا، وتسبيحه زادنا، وبحبه تحلو الحياة وتطيب، وإذا خلت منه فهي مُرٌّ أُجاج، وإذا رضي عنا لم يهمنا إذا سخط الأنام وغضبوا، وإذا عَمَر الذي بيننا وبينه لم يضرنا إذا كان الذي بيننا وبين العالمين خرابا، وله العتبى حتى يرضى، ولا سبيل لنا إلى توثيق ارتباطنا به إلا بأن نذكره ذكرا كثيرا بكرة وأصيلا، ونلجأ إليه مستعينين به ومعتصمين، وسائلين إياه وبه متحصنين، وفي كل ما سواه زاهدين، وإياه مُجافِين ومُجانِبين

قالوا: ما العون على ذلك؟ فقد تغلَّب علينا الهوى واستحكم فينا الكسل، قلت: عليكم بخصلتين متشبِّثين بهما تشبثا: قراءة القرآن فهمًا وتدبرا منعمي النظر فيه ظاهرا وباطنا، وصحبة الأخيار الصالحين الخاشعين القانتين، فللصحبة تأثير عجيب في تطهير النفوس وتزكيتها، ومعافاة القلوب وسدادها، ووصلها بالله تعالى وتعليقها به، وقصدها إياه في وجد وشوق، قالوا: اذكر لنا الصالحين الذين صحبتهم وجالستهم، فانتفعت بهم في ذكر الله تعالى وابتغاء الوسيلة إليه مخبتا منيبا، قلت: هم بضعة عشر رجلا، أجلهم إلي وأبلغهم رتبة وشرفا هو الشيخ السبَّاق المُفرِّد محمد أحمد البرتابكرهي رحمه الله تعالى

قالوا: اختر لنا من حياته وسيرته ما يقرِّبه إلينا تقريبا، قلت: هو العالم الرباني الصالح التقي النقي محمد أحمد بن غلام محمد البرتابكرهي، ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة وألف في فولفور من أعمال برتابكره، وأخذ عن الشيخ الكبير المحدث حافظ صحيح البخاري بدر علي من سدونة في رائي بريلي من خلفاء فضل الرحمن الكنج مرادآبادي، وحصل له منه الإجازة والخلافة في الطريقة، ثم اتصل بالشيخ وارث حسن الحسيني الحنفي الكوري اللكنوي أحد خلفاء شيخ الهند محمود الحسن الديوبندي، وعمل رياضات شاقة ومجاهدات طويلة تحت رعايته وتربيته في مسجد التل التاريخي الشهير في مدينة لكنؤ

ثم أقبل على الدعوة إلى الله تعالى صارفًا نفسه عن الوشائج الدنيوية وكابحًا جماحَها في وجه المصالح المادية، متجولاً في القرى والبوادي يعلّم الناس دينهم ويصلحهم ويطهرهم ويربيهم تربية، بعيدَ الهمِّ عن الطعام والشراب والملبس والمسكن، واتخذ حب الله تعالى وإيثاره والزهد في الدنيا مذهبا له، وأخيرًا تحول إلى مدينة إله آباد حيث قصده الناس من أقصى البلاد وأدناها، وأصبح موئل الخلق ومرجع الأنام، ولقد رأيت كبار مشايخ عصرنا شيخنا الإمام أبا الحسن علي الندوي، والمحدث الجليل الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، والعالم الرباني أبرار الحق، والقارئ صديق أحمد الباندوي يقدِّمونه على أنفسهم، ويزورونه، وينهلون من منهله الصافي الزلال، وعاش على هذه الطريقة مستقيما عليها ثابتا إلى أن وافاه الأجل يوم الأحد الثالث من ربيع الثاني سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وألف في إله آباد عن عمر يزيد على تسعين سنة، وخلف بنين وبنات، وبنوه: الشيخ اشتياق أحمد، وإرشاد أحمد، والمقرئ مشتاق أحمد

قالوا: أخبرنا بفضله، قلت: كان منقطع النظير في العبادة ومحبة الله والتفاني فيه والتوكل والزهد والقناعة والتواضع، صفا ولم يكدر، وأخلص سره صادقا، تاليا لكتاب الله تعالى في تدبر وتفقه، ومتبعًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم ومتأدبا بآدابه، وكان لكلماته نفوذ في القلوب وسلطان على النفوس، وانجذب العلماء والصلحاء وعامة الناس بل والهندوس إليه انجذابا غريبا متواضعين على حبه وتقديره وإجلاله وتعظيمه، يقول شيخنا أبو الحسن علي الندوي رحمه الله تعالى: لما زرته للمرة الأولى وجدته في غاية من البساطة في ملبسه وحديثه، لم أر فيه شيئا من المشيخة، ولما سمعت موعظته وجدت فيها من الإخلاص والروحانية والربانية والذكر الإلهي والتذكير باليوم الآخر والإنابة إلى الله وإصلاح النفس ما لم أجد إلا لدى عدد قليل جدا من الوعاظ والخطباء

قالوا: قُصَّ علينا من صلتك به، قلت: حضرتُه مع بعض زملائي أكثر من مرة في لكناؤ وفي إله آباد، ولعله أفضل من جالسته وصحبته من العلماء الصالحين الربانيين، وكلما زرناه حَضَننا وضمَّنا إليه وعانقنا عناقًا طويلاً بقلب ملؤه الحب والشفقة، وهو في الحب كالأم الحنون والأب الشفوق، وذلك دأبه مع كل من قصده وقدم عليه، وكان هذا الحب طبيعيا فيه، لا تكلف فيه ولا تصنع، وكنت أعجب من همته ونشاطه وقوته وسرعته رغم كبر سنه وضعف بنيته، وكان يوصينا دائمًا بقراءة القرآن الكريم واتباع السنة، وما رأيته إلا ذكرت الله تعالى، وكان في غاية من التواضع يجلس مع الزوار ويؤاكلهم ويشاربهم ويهتم بأمورهم ويهدي إليهم بما جاءه من الفتوح، ولم يدخر شيئا من المال ولا اقتنى دينارا ولا درهما مع انهيال الدنيا عليه في آخر أيام حياته

قالوا: هل استجزته؟ قلت: لقد حرمتُ إجازته، ولو استجزته لأجازني، وإسناده عال نادر، فإنه يروي عن شيخه في العلم والطريقة المحدث الكبير بدر علي عن المحدث الكبير العالم الرباني فضل الرحمن الكنج مرادآبادي، قالوا: ما لك متحسرا على فوات إجازته كل هذا التحسر، وقد حصلت لك إجازات من الرواة عن أصحاب فضل الرحمن الكنج مراد آبادي. قلت: صدقتم، ولكن هذا طريق نادر: رواية محدث شيخ في الطريقة عن شيخ مثله عن مثله، والثلاثة معروفون بالعلم والصلاح والتعليم والتربية، ففيه علو وندرة، وإني أحبُّ مولانا محمد أحمد محبة كبيرة مُجِلاًّ له أي إجلال، فيا ليتني استجزته ورويت عنه

قالوا: ما مدى حبه لله تعالى وذكره له، قلت: غلبته المحبة والمودة، فأصبح هو والحب توأمين متلازمين، مُعنَّى القلب مكروبا، ومن أذى الحب في عذاب مذيب، وأبت نار غرامه إلا التهابا، وقف نفسه في سبيل الحبيب عالقًا به قلبه، وأنسه في حضوره حافظه وفي مغيبه

قالوا: حدِّثنا عن شعره، قلت: كان شاعرا موهوبا، وقد تغلغل الحب في شعره، فإذا ترنحت قريحته أرسل النفس على سجيتها، وأتى بأبيات حافلة بالنكت العلمية، واللفتات الدعوية، وجياشة بالعواطف الإيمانية والغيرة الدينية، وطبع له ديوان باسم “عرفان محبت”، وقدَّم له شيخنا أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى، وترجمتُ منظومة شعرية له من الأردية، وطبعت في صحيفة الرائد الصادرة في دار العلوم لندوة العلماء، بلكناؤ، ففرح جدا، ودعا لي، وكتب إلي رسالة ضاعت مني، وحزنت جدا على فقدها

وتحدث في شعره عن مبلغ حبه، فقال: “أحرقتني نار المحبة، ومتُّ بها، فلما متُّ وجدت الحياة” ولكنه لم يتخط الحد في هذا الحب بل جعل الشرع والعقل حافظين له، يقول: لم يبق الآن شيء من الإفراط والتفريط، فلما اكتمل الحب اعتدل