بسم الله الرحمن الرحيم
من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: رسولاً معلِّمًا
بقلم: محمد أكرم الندوي
قالوا: حدِّثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم معلِّما
قلت: قد حالفكم التوفيق في سؤالكم هذا نامًّا عن صفاء طبائعكم وطهارة سرائركم، فما أجهل الناس به صلى الله عليه وسلم معلِّمًا! تدنى مستواهم وهبط هبوطا، وفسد عقلهم واختل تفكيرهم أيما اختلال، إذ نصبوا أنفسهم مفتين، مسيطرين على خلق الله جبارين، وأنزلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مقامه الرفيع ورتبته السامية وجعلوه مفتيا كالمفتين، وقد بعثه الله معلما، وهو دعوة أبيه إبراهيم، التي أجابها الله فقال: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأخرج ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرءون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل على خير، هؤلاء يقرءون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون، وإنما بعثت معلِّما، فجلس معهم
قالوا: ما معنى التعليم؟
قلت: هي عملية تدريجية مقصودة منظمة يتم من خلالها إكساب المتعلم المعارف الفطرية والمحسوسة والعقلية والنقلية بهدف تنشئته وترقيته سلوكياً، ووجدانياً، وعقلياً وفق نظرية من النظريات أو فلسفة من الفلسفات
قالوا: ما الفرق بين المفتي والمعلِّم؟
:قلت: الفرق بينهما من وجوه، أهمها ثلاثة
الأول: يحاول المفتي فرض جواب على المستفتي إزاء سؤاله بغض النظر عما إذا كان السؤال يعنيه أو لا يعنيه، ينفعه أو يضره، بينما المعلِّم لا يجيب عن السؤال إلا إذا كان فيه منفعة للمتعلم، وإذا لم يكن له فيه منفعة أعرض عنه وعلَّمه ما ينفعه، قال تعالى: “ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم”، وأخرج الشيخان وغيرهما عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال”، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ بالله من علم لا ينفع
الثاني: لا يراعي المفتي مستوى المستفتي واستعداده، بينما المعلِّم يراعي مستوى المتعلمين واستعدادهم، ويستدرجهم من مستوى إلى أرفع منه، ويعلمهم حسب حاجاتهم وقواهم وكفاءاتهم، فيبدأ بصغار العلم قبل كباره، وأخرج البخاري عن ابن عباس في معنى الرباني أنه الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره”. قال شيخنا عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: “وكان صلى الله عليه وسلم يراعي التدريج في التعليم، فكان يقدِّم الأهم فالأهم، ويعلِّم شيئا فشيئا نجما نجما، ليكون أقرب تناولا، وأثبت على الفؤاد حفظا وفهما”
الثالث: لا يهم المفتي إذا فهم المستفتون جواب المسألة ووعوه وعرفوا دلائله، ولا يعنى بتطويرهم علما وعملا، بينما يعنى المعلم بأن يفهم تلاميذه عنه، فيشرح لهم الأمور ويضرب لهم الأمثلة، ويقيم لهم البراهين والأدلة، ولا يعلِّمهم أن يحاكوه أو يقلدوه أو ينسخوه، بل يعلِّمهم أن يفهموه ويفقهوه، ثم يتبعوه بوعي وعقل وإرادة، أخرج الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاث لتعقل عنه”، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما المفلسُ؟
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: “إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار”. فانظروا كيف تناول النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إيضاحا وبيانا
قالوا: كيف حثه الناس على التعلم وتشجيعهم عليه؟
قلت: أخرج ابن ماجه وغيره من طرق عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”. وأخرج الطبراني عن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده. قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا. ثم قال: ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتعظون؟ والله ليُعلِّمن قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتعظون، أو لأعاجلنهم العقوبة، ثم نزل. فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال: الأشعريين: هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب. فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: يا رسول الله ذكرت قوما بخير وذكرتنا بشر. فما بالنا؟ فقال: ليعلمن قوم جيرانهم، وليعظنهم، وليأمرونهم، ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون، ويتفقهون أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا. فقالوا: يا رسول صلى الله عليه وسلم. أنفطن غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم، فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا
فقالوا: أمهلنا سنة، فأمهلهم سنة، يفقهونهم، ويعلمونهم، ويعظونهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) لآية
قالوا: فهل خص الرجال بالتعليم دون النساء؟
قلت: لا، بل سوَّى في تعليمه بين الرجال والنساء، بل قد كان يخص النساء بمجالس علم دون الرجال، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أشهد على رسول الله صلىوسلمخ لصلى قبل الخطبة قال: ثم خطب فرأى أنه لم يُسمع النساء فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وبلال قائل بثوبه فجعلت المرأة تلقي الخاتم والخرص والشيء. وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قالت النساء للنبي صلىوسلمخ : غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار فقالت امرأة واثنتين فقال واثنتين
قالوا: المعلمون كثير، وأنواع شتى، فأين النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم؟
قلت: هو أفضلهم وأجلهم شأنا، لا يساويه سائر المعلمين في الشرق والغرب وفي الماضي والحاضر، مهما كانت مواضيعهم واهتماماتهم
قالوا: اشرح لنا الفرق بينه وبين غيره من المعلمين
:قلت: الفرق بينه وبينهم من جهات شتى
الأولى: الموضوع والهدف والمنهج، فموضوعه عبادة الله تعالى، وهدفه إيثار الآخرة على الدنيا، وابتغاء رضوان الله، إن عامة المعلمين مواضيعهم مادية بحتة مشهودة محسوسة، يعلِّمون الناس الدنيا وكيف يتكسبونها محبين لها ومؤثرين لها على نعيم الآخرة، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس الأمور الغيبية وما لا يدركونه بالشهادة، فموضوعه أعلى، وهدفه أسمى، وسعيه في الكشف عن الغيب وتقريبه إلى عقول الناس أطهر وأزكى، وكان لا يعتمد على مقررات أو اختبار، أو شهادة وإجازة، ولا يعلم الناس كمتخصص في فرع من فروع العلم أو خبير في فن من الفنون، بل ترك التخصصات الدنيوية إلى أهلها، فمنهم من هو متخصص في الزراعة، ومنهم من هو متخصص في الشؤون الحربية، ولم يخطئ أصحابه في إدراك ذلك
الثانية: استقباله للجميع وترحيبه بهم صالحين وطالحين، ومتقين وآثمين، يراهم تائبين إلى الله، فلا يطرد أحدا منهم مهما كبر ذنبه أو بلغ إثمه، أخرج مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلىوسلمج فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فاقض في ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، قال: فلم يرد النبي صلىوسلمه شيئا، فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي صلىوسلمس رجلا دعاه وتلا عليه هذه الآية( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)، فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة
الثالثة: نصحه لهم، أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في قصة التخيير، قال: ثم نزلت عليه هذه الآية (يا أيها النبي قل لأزواجك حتى بلغ للمحسنات منكن أجرا عظيما)، قال: فبدأ بعائشة فقال يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي
قلت، قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا
الرابعة: أخلاقه، فيعامل الناس بأمثل خلق وأعدل سمت، يتلقاهم بوجه طلق، مفضلا عليهم، وصابرا على أذاهم، أخرج مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم
فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم
فقلت: وا ثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله، ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال:” إن هذه الصلاة، لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”
قالوا: ما أفضل ما ألف في هذا الموضوع؟
قلت: هو (الرسول المعلم وأساليبه في التعليم) لشيخنا الجليل العلامة النبيل المحدث الأصيل عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله تعالى، غير مسبوق إليه، يقول في مقدمته: “وإذا لاحظنا النماذج المعلمة الهادية من النوع الإنساني، التي شاهدتها البشرية بعد الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم رأيناها تدل أقوى الدلالة على عظم هذا المعلم المربي الكبير، الذي تتقاصر أمامه أسماء كل الكب
ار الذين عرفوا وذكروا في عالم التعليم والتربية وتاريخهما