بسم الله الرحمن الرحيم
من علّمك السماحة
بقلم: محمد أكرم الندوي
قالوا: ما معنى السماحة؟ قلت: معناه السهولة والدماثة، والأريحية والكرم، وهي خلق في الإنسان أصيل نبيل، يجعل حامله مأنوسًا ميسِّرا للناس أمورهم مع احترام لهم وبذل المعروف لهم، والإنسانُ السمحُ هو الطيب اللين الرقيق، والجواد الفياح، حسن الظن بالورى، متغاض عن زلاتهم، قابل لهم أعذارهم راضيًا عنهم، غير متعنت عليهم ولا متزمت، ولا جافٍ ولا ثقيل، متهلل لهم منبسط، غير عبوس ولا كالح في وجوههم
قالوا: فيك من سيماء السماحة وأمارتها ما عز عند غيرك وندر، قلت: ما أنا على السماحة مجبولا ولا عليها مطبوعا، وإنما تكلفتها تكلفا سارقًا إياها من بعض شيوخي، قالوا: فمن علَّمك السماحة من بين شيوخك على كثرتهم واختلاف نزعاتهم وطبائعهم؟ قلت: ما أبعد الخلق عن السماحة وما أبعدها عنهم، ولعل أبرز شيوخي في هذه الصفة هو الإمام الكبير العالم الجليل أبو الحسن علي الندوي، هجان الحي، كريم الجد، حلو الشمائل، كالذهب المصفى، سما فوق صعب لا تنال مراقبه، بلوتُ رجالا بعده، فما وجدت أحدا يشبهه في سماحته ولا يدانيه، رجل عاش حتى تم وكمل ونضج، كم من الأحياء قد ماتوا من زمان، وأتكلم عنه كأنه حي بيننا، أنظر إلى هديه ودله وسمته، بادية على وجهه لمحة سماوية، ومنقوشة في قلبه طهارة ملكوتية، تبهى به المجالس والمحافل وقارا ورزانا، قالوا: صف لنا بعض مخايل سماحته فنتبعه فيها ونتخذه أسوة، قلت: أذكر لكم أربعًا منها
الأولى: سماحته في المذاهب والآراء، نشأ في زمن أعجب فيه كل ذي رأيه برأيه، وتعصب كل مقلد لمذهبه، راميًا غيره بسهام من الطعن والجرح والغيبة والأذى، حاملا لأخيه الغل والحقد والهوى، فعاش رحمه الله غريبًا عن ذوي عصره مترفعا عليهم نقي القلب سليم دواعي الصدر، محترمًا للناس ومكرمًا لهم، غير باحث عن انتماءاتهم، ولا منقب عنها أو آخذ لها بعين الاعتبار، مصلحًا بين النفوس، مؤلفا بين القلوب، ومقربًا بين العلماء والشيوخ والقادة تقريبًا، مشيدا بفضلهم ومناقبهم ومنوها بشأنهم وأعمالهم، متغاضيا عن عيوبهم ومثالبهم، غير متعرض لما يسوءهم أو يستثير دفائن نفوسهم، وكارهًا للخلاف والجدال، عفيفًا عن الشحناء والبغضاء، نزيها عن الرد والخصام
الثانية: تودده لأصحابه وتلاميذه، رفيقًا بهم مؤنسًا لهم، شفوقًا عليهم عطوفا، مؤاتيًا لهم وفيًّا، يغض عن سقطاتهم، يقيل عثراتهم، ويشاركهم في حديثهم وأفراحهم وأحزانهم، وقد يمازحهم مزاحًا لطيفًا، متفكها ومخففا عنهم بعض أثقالهم تخفيفا، مجلسه مجلس علم وأدب، وتاريخ وسير، ليس فيه استخفاف بأحد ولا ازدراء، ولا غمز ولا تعريض، ولا قهقهة ولا سخرية، بعيدا عن التكلف والتصنع، مصونًا عن المجاملة والمداهنة، يكرم جلساءه ويحترمهم شاهدين أو غائبين، ويحفظ أسرارهم أحياء وأمواتا، لم يؤذهم، ولا اغتابهم، غير مترقب لهم ضررا ولا مترصد سوءا، ولا حامل لهم إحنا وضغينة، ولا موجدة وحنقا، أبرأ الناس من الحسد والمراء وسائر الأخلاق السيئة، عديم التشكي للمصاب، قليل الخلاف مع غيره، ينفي الفواحشَ سمعُه وبصرُه ولسانُه، كأن به عن كل فاحشة وقرا وعمى وعِيًّا
الثالثة: تقديم غيره إذا مست الحاجة إلى جواب عن سؤال أو فتوى أو إبداء رأي، فما استثقله ذوو العلم والفقه متظاهرًا عليهم بعلم أو فهم، أو متبجحًا برأي أو عقل، أو متشبعًا بما لم يؤت، أو متسرعًا إلى ما لم يحسن، وهو مثال للسلف الصالح في صيانة نفسه من الكلام فيما كفاه غيره، عن ابن أبي ليلى، قال: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة، فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أخاه كفاه. وصحبته في رحلة علمية من سمرقند إلى بخارى في جماعة من العلماء والشيوخ منهم شيخنا الحافظ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، ورأيت كلا الشيخين مثالا عاليا في تبادل الاحترام والتبجيل والتوقير، وحين عودتنا من بخارى إلى سمرقند حان وقت المغرب، وفي الطريق صعوبة للوضوء والصلاة وليس معنا دليل، فأمرني شيخنا أبو الحسن أن أسأل الشيخ عبد الفتاح: أين نصلي المغرب؟ فسألت الشيخ، فقال: نصلي المغرب والعشاء جمعا في فندقنا في سمرقند، فأخبرته بذلك فسلّم لرأيه منبسطا له راضيا به
الرابعة: ضيافته وجوده وسخاؤه، يحضره أهل الأرب من أقاربه وأصحابه والغرباء رجالا ونساءًا، مستغنين به عن إخوانهم وخلانهم، فيقابلهم مرحِّبًا بهم، صافيةً لهم خليقتُه، ومانحًا لهم ودَّه، يعرض عليهم ميسوره، ويبذل لهم معروفه، له عندهم أياد جمة ومنٌّ ليس بممنون، غير عنوف ولا فظ، ولاباسط لأحد أذى ولا مانع خيرا، ولا قائل هجرا، وإن كان فيهم بعض من هو محني الضلوع على بغضه، يصبر على أذاهم، يصفح عن مجاهلهم، ويعرف للناس حقوقهم، والحقوق يعرفها الكرام، ويرجع ذوو الحاجة والطلب من عنده بما بغَوا ووجوههم بمائها
قالوا: زدنا من أخباره في السماحة والندى، فم ا أطيبها وأشهاها وما أيسرها دخولا في القلوب ترقيقا له وتليينا، قلت: لِنمسك على هذا الحد، فإن لذكراه غمزا على قلبي، وإيلامًا لنفسي، وتوجيعًا لصدري، وأشفقوا علي إن كنتم على شيوخكم مشفقين، ونفسي فداء أبي الحسن المعلم الناصح الذي غنيت به عن المعلمين والناصحين، والذي مازلت أحمد في ذراه مكاني، فجزاه الله الجزاء الذي لم يجزه شكري ولم يبلغ مداه لساني، ولولاه لم ألحق بمن فوقي ولم أفضل على من دوني
قالوا: فما توصينا؟ قلت: أوصيكم ونفسي بتدبر سيرة الشيخ ومن سبقه من الصالحين الأبرار والمتقين الأخيار، واجتهدوا في تحصيل السماحة راغبين فيها محبين لها، غير زاهدين فيها ولا معرضين عنها إعراضا، فما أكثر الإخوان وما أقل الثقات، ولا يعترين خلقكم دنس أو دناءة أو رجس، وكونوا هينين لينين أيسارا ذوي كرم، غير ممارين، ولا ناطقين عن الفحشاء، وأخلاقُ ذوي السماحة معروفة ببذل الجميل وكف الأذى، والبعد عمن خان الصداقة والمودة