Select Page

بسم الله الرحمن الرحيم

مجلس سماع وعلم

بقلم: د. محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

عقد معهد السلام مجلس سماع للحديث الساعة الخامسة إلى السابعة مساء الأحد سابع رجب سنة 1441هـ بلندن عاصمة المملكة المتحدة، حضره العلماء والطلاب رجالا ونساء في عدد كبير، قرأ فيه الشيخ العالم المسند المحقق محمد زياد التكلة جزء الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي (150-257)، وجزء الاعتقاد للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256)، والقصيدة الوضاحية في مدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للشيخ الإمام أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن بهيج (كان حيا سنة 496 هـ)، رحمهم الله تعالى، على شيخنا العلامة الكبير نظام محمد صالح اليعقوبي أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية، والذي أسمع الحضور المسلسل بالأولية، وأفادهم ببيان لمعاني بعض الأحاديث ونصائح ذهبية، وأجاز الحضور وسائر من سمع المجلس عبر البث المباشر أو متأخرا إجازة عامة، ثم أمر الشيخ كاتب هذه السطور والشيخ محمد زياد التكلة بالإجازة، فأجزنا الحضور وسائر المستمعين إجازة عامة، وممن سمع المجلس العزيز أبو الفرحان مدير معهد السلام، وبعض أساتذته، وزوجي فرحانة، وبناتي عائشة وفاطمة، وسمية (وأولادها عاصم وآسية وإبراهيم)، وهالة، (وسمع بعضه أولادها أماني، وأسامة، ومريم)، ومريم وابنها سفيان (سمعا بعضه).
وسرد لنا الشيخ نظام قصة عثوره على القصيدة الوضاحية، قائلا: كنت قبل سنوات في زيارة لبريطانيا صحبة الوالدة الكريمة حفظها الله تعالى لمراجعة بعض الأطباء، وكعادتي قصدت المكتبة البريطانية في لندن للاطلاع على نفائس مخطوطاتها، فكان من جملة ما اطلعت عليه هذه القصيدة، ولم أسمع بها من قبل، واسترعى انتباهي البيت التالي:
يا مُبْغضي لا تَأْت قَبْرَ محمَّدٍ
فالبَيْتُ بيتي والمَكانُ مَكاني
وبعد أيام قمت بزيارة مكتبة جامعة أكسفورد للاطلاع على بعض مخطوطاتها فوجدت النسخة الثانية المسندة لهذه القصيدة، فكأنها تنادي علي: أخرجني أخرجني.
وقصصت على أهل المجلس متنبها بطرفة الشيخ نظام أني سمعت القصيدة ومعي بنتاي حسنى وسمية على العلامة المحدث الفقيه المشارك العابد الزاهد المتأله محمد بن محمد بن محمد البقالي الهسكوري الطنجي الأثري في شهر رمضان المبارك سنة ثمان وعشرين وأربع مائة وألف بعد صلاة الفجر في المسجد الحرام، وقد رويتها بسندي في كتابي “الوفاء في أسماء النساء”.
ومن سيماء يمن هذا المجلس وسعده رؤيا رآها شيخنا محمد بن ناصر العجمي، وأسرَّ بها إلي صباح انعقاده، رآني صحبة الشيخ نظام ونحن منتدبون إلى مؤتمر، ووصف الاجتماع بنا وصفا بارعا، وخيل إلينا أن هذا المجلس هو تأويل هذه الرؤيا، وشيخنا العجمي من المحبين لهذا العبد الفقير والمشجعين له، وهو أخ ناصح أمين، وصديق وفي كريم، نبغ بين أقرانه بجهاده بقلمه منذ طلع شبابه واستحكم عقله واستنارت بصيرته، وهو على البحث والتحقيق جلد صبور، غزير الإنتاج والإبداع، فائض من مكنون علمه وفاضل أدبه، بما يتبارى في اصطفائه العلماء والباحثون، وما يتنافس في اقتناء درره وغرره المتنافسون.
ولما انتهى المجلس تسابق كثير من العلماء والباحثين الحضور إلى لقاء الشيخين الكريمين، ثم انطلقنا وتعشينا في مطعم المائدة قرب الجامع المبارك شرقي لندن، وتحول الحفل إلى غذاء علمي وعقلي بوجود الشيخ نظام، وهو شيخ ذكي عاقل، متودد عطوف، ورقيق ألوف، يدرك كنه الأمور راميا بعينيه وراء الحجب، ويتلاطف مع أصحابه جائشا قلبه لهم شفقة وحنانا.
حكى مواقفه العجيبة النادرة مع المستشرقين واحتكاكه بهم، كاشفا الغطاء عن كراهيتهم للإسلام والمسلمين، وبغضهم للتراث الإسلامي، وحقدهم على العلوم والفنون والآداب الشرقية، وما قاموا به من محاولات الهدم والطمس والتحريف والتزوير والتضليل والتشكيك بشأن التاريخ الإسلامي، وانبهر الحضور بإلمامه بالموضوع، وتحليله له التحليل الرائع الدقيق، وغيرته الدينية وحميته الإسلامية، ودفاعه عن الأمة هذا الدفاع القوي، وكأنه قلبها المتوثب وعقلها المتيقظ.
وأسهب في الإخبار عن المخطوطات، وهو من أكبر العالمين بها وبكنوزها وذخائرها وأمكنة وجودها ومواقعها في تركيا وبلاد الشام والهند وإنكلترا وألمانيا، وأبرز العارفين بفهارس المكتبات والمراكز والمؤسسات التي تحتفظ بها، ومكتبات الأسر والأفراد، وخطوط المؤلفين ونقوشهم ورسومهم، وعرَّفنا من خلال حديثه ببعض نفائس المخطوطات تعريفا بالغا، والحق أن هذا الموضوع إذا تعرض له الشيخ فحدث عن البحر ولا حرج، فهو جندي من جنود هذا الفن القليل المتضلعون منه.
واسترسل في موضوع الحديث والإسناد، وتحدث عن عنايته بالإجازات والسماعات، وحضوره مجلس سنن أبي داود على الشيخ الفاداني في محرم سنة عشر أي سنة وفاته، وكان مشهدا جميلا ضم كبار العلماء، وعلى رأسهم شيخنا عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله، والشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري رحمه الله، وشيخنا محمد عوامة حفظه الله تعالى.
وتحدث عن الأدب والشعر، وعن أركان الغزل، وقال: هي أربعة: 1- وصف ما يُكابده الشاعر من لوعات الشوق وما يعتلج قلبه من أحاسيس وعواطف ومشاعر وهواجس، 2- ووصف محاسن الحبيبة والإعجاب بها، 3- وسرد قصة الحب وما يخلفه في قلبه من عذاب وعناء، 4- وذكر العذال والمعاتبين. ورد الشيخ عدم اشتهار قصيدة كعب بن زهير بن أبي سلمى ذلك الاشتهار الذي يستحقه، إلى سيطرة وصف الناقة عليها سيطرة تفتر نشاط المستمعين وتبعث فيهم نوعا من السآمة والملل.
وتأخر الليل، فنهضنا من المجلس ونحن إلى إطالته مشتاقون، قارة عيوننا بشيخه، وحاملين معنا ذكرى منه يخلد إليها، وخلقا يحتذى، وهديا يتبع، فجزاه الله تعالى أوفى الجزاء.